تشهد الليرة اللبنانية استقرارًا نسبيًّا في الوقت الحالي، حيث تبلغ قيمتها نحو 90 ألف ليرة لكل دولار أميركي واحد. لكن هذا الاستقرار، وفقًا لتقرير حديث صادر عن وكالة "ستاندرد آند بورز" العالمية، قد لا يستمر طويلًا. التقرير يضع سيناريوهات محتملة لانخفاض كبير في قيمة الليرة مقابل الدولار خلال السنوات القليلة المقبلة، متوقعًا أن تصل قيمتها إلى 115 ألف ليرة لكل دولار في العام 2025، وإلى 136 ألف ليرة في 2026، وصولًا إلى 152 ألف ليرة لكل دولار في 2027.
هذه التوقعات تأتي في ظل مجموعة من التحديات التي يواجهها الاقتصاد اللبناني، أبرزها استمرار الأزمة السياسية، وارتفاع مستويات الدين العام، بالإضافة إلى تفاقم المخاطر الأمنية الناجمة عن الصراع المستمر بين حزب الله وإسرائيل. التقرير أشار أيضًا إلى أن انعدام الاستقرار الاقتصادي وزيادة الدولرة في الاقتصاد اللبناني يساهمان في هذا التدهور المتوقع لقيمة العملة الوطنية.
هذه التحذيرات من "ستاندرد آند بورز" جاءت في وقتٍ تزداد فيه التحديات على الساحة الاقتصادية اللبنانية. ففي أيّار الماضي، أكد صندوق النقد الدولي أن الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة اللبنانية غير كافية لانتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية المتفاقمة. رئيس بعثة الصندوق، إرنستو راميريز ريجو، أشار إلى أن استمرار أزمة اللاجئين وتصاعد الصراع على الحدود الجنوبية للبنان، إلى جانب تداعيات الحرب في غزة، يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي المتدهور بالفعل.
تحليل اقتصادي للوضع الراهن
في حديث لـ"النشرة"، أوضح الدكتور منير راشد، رئيس "الجمعية الاقتصادية اللبنانية" والخبير السابق في صندوق النقد الدولي، أن تقرير "ستاندرد آند بورز" يعكس تحليلًا واقعيًّا للوضع الاقتصادي في لبنان. وبيّن راشد أن سعر الصرف الحالي لليرة اللبنانية لا يعكس الواقع الفعلي للعرض والطلب، بل هو سعر مفروض على السوق في ظل سياسة نقدية مكبّلة. وأشار إلى أن تحرير سعر الصرف سيؤدي حتمًا إلى انخفاض قيمة الليرة، ما لم تُتّخَذ إصلاحات جذرية على مستوى الاقتصاد والسياسة.
وأضاف راشد أن المالية العامة في لبنان تحقق توازنًا اصطناعيًا، إذ تتخلف الدولة عن سداد التزاماتها المالية، وخاصة خدمة الدين على اليوروبوندز، حيث تجاوزت قيمة متأخرات الفوائد 10 مليارات دولار. كما أشار إلى أن البنية التحتية في لبنان منهارة، والإنفاق الاستثماري العام متوقف، ما يعزز من هشاشة الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد.
وأكد راشد أن تثبيت سعر الصرف الحالي، رغم عدم واقعيته، قد يكون أسوأ من تركه للانخفاض، موضحًا أن السياسات السيئة هي التي تؤدي إلى هذا الوضع، وليس انخفاض سعر الصرف بحد ذاته. ولفت إلى أن الثقة المفقودة لدى المواطنين والشركات والمستثمرين في قدرة لبنان على تنفيذ إصلاحات جذرية تزيد من صعوبة تحديد السعر المنخفض المتوقع لليرة في المستقبل.
التحديات الاقتصادية
"ستاندرد آند بورز" ترى من جهتها، أن تقليص الإنفاق العام في لبنان ليس كافيًا لتحسين الوضع الاقتصادي. وعلى الرغم من أن الدولة اللبنانية تنفق بالليرة اللبنانية، فإن هذه النفقات تراجعت بشكل كبير. ورغم هذه التحديات، تمكن المصرف المركزي من زيادة احتياطاته من العملة الأجنبية، التي سجلت فائضًا بلغ 1.8 مليار دولار منذ آب 2023، ليصل إجمالي الاحتياطات إلى 10.388 مليار دولار.
ورغم الضغوط المتزايدة من الجبهة الجنوبية والعدوان الإسرائيلي على لبنان، حافظ المصرف المركزي على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، محققًا نوعًا من الاستقرار المالي. وقد سمحت السياسات النقدية الحكيمة للإدارة الجديدة للمصرف المركزي بزيادة الاحتياطات الأجنبية، دون اللجوء إلى طباعة العملة وضخها في السوق.
لكن، في ظل استمرار التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية، تبقى آفاق الليرة اللبنانية قاتمة، ما لم تُتّخَذ خطوات جادة نحو الإصلاح. التقرير يعكس واقعًا مريرًا يواجهه لبنان، ويضع البلاد أمام تحديات كبيرة تحتاج إلى حلول جذرية تتجاوز مجرد السيطرة على سعر الصرف.